الباب الأول في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت
لما كان القلب يوصف بالحياة وضدها انقسم بحسب ذلك إلى هذه الأحوال الثلاثة
فالقلب الصحيح : هو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى
الله به كما قال تعالى : يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [ الشعراء : 88 ] والسليم
هو السالم وجاء على هذا المثال لأنه للصفات كالطويل والقصير والظريف
فالسليم القلب الذي قد صارت السلامة صفة ثابتة له كالعليم والقدير وأيضا
فإنه ضد المريض والسقيم والعليل .
وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم والأمر الجامع لذلك : أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه ومن كل شبهة تعارض خبره فسلم من عبودية ما سواه وسلم من تحكيم غير رسوله
فسلم في محبة الله مع تحكيمه لرسوله في خوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة
إليه والذل له وإيثار مرضاته في كل حال والتباعد من سخطه بكل طريق وهذا هو
حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده قالقلب السليم : هو
الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما بل قد خلصت عبوديته لله
تعالى : إرادة ومحبة وتوكلا وإنابة وإخباتا وخشية ورجاء وخلص عمله لله
فإن أحب أحب في الله وإن أبغض أبغض في الله وإن أعطى أعطى لله وإن منع منع لله ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسولهa فيعقد قلبه معه عقدا محكما على الائتمام والاقتداء به وحده دون كل أحد في الأقوال والأعمال من أقوال القلب وهي العقائد وأقوال اللسان وهي الخبر عما في القلب وأعمال القلب وهي الإرادة والمحبة والكراهة وتوابعها وأعمال الجوارح فيكون الحاكم عليه في ذلك كله دقعه وجله هو ما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل كما قال تعالى : يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله [ الحجرات : 1 ] أي لا تقولوا حتى يقول ولا تفعلوا حتى يأمر قال بعض السلف : ما من فعلة وإن صغرت إلا ينشر لها ديوانان : لم وكيف أى لم فعلت وكيف فعلت فالأول سؤال
عن علة الفعل وباعثه وداعيه : هل هو حظ عاجل من حظوظ العامل وغرض من أغراض
الدنيا في محبة المدح من الناس أو خوف ذمهم أو استجلاب محبوب عاجل أو دفع
مكروه عاجل أم الباعث على الفعل القيام بحق العبودية وطلب التودد والتقرب
إلى الرب سبحانه وتعالى وابتغاء الوسيلة إليه
ومحل هذا السؤال : أنه هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك أم فعلته لحظك وهواك
والثاني : سؤال عن متابعة الرسول عليه الصلاة و السلام في ذلك التعبد أي هل كان ذلك العمل مما شرعته لك على لسان رسولي أم كان عملا لم أشرعه ولم أرضه
فالأول سؤال عن الإخلاص والثاني عن المتابعة فإن الله سبحانه لا يقبل عملا إلا بهما
فطريق التخلص من السؤال الأول : بتجريد الإخلاص وطريق التخلص من السؤال الثاني : بتحقيق المتابعة وسلامة القلب من إرادة تعارض الإخلاص وهوى يعارض الاتباع فهذا حقيقة سلامة القلب الذي ضمنت له النجاة والسعادة .
فصل في القلب الميت
والقلب الثاني : ضد هذا وهو القلب الميت الذي لا حياة به فهو لا يعرف ربه ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه بل هو واقف مع شهواته ولذاته ولو كان فيها سخط ربه وغضبه فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته وحظه رضى ربه أم سخط فهو متعبد لغير الله :
حبا وخوفا ورجاء ورضا وسخطا وتعظيما وذلا إن أحب أحب لهواه وإن أبغض أبغض
لهواه وإن أعطى أعطى لهواه وإن منع منع لهواه فهواه ا ثر عنده وأحب إليه
من رضا مولاه فالهوى إمامه والشهوة قائده والجهل سائقه والغفلة مركبه فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور ينادى إلى الله وإلى الدار الا خرة من مكان بعيد ولا يستجيب للناصح ويتبع كل شيطان مريد الدنيا تسخطه وترضيه والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه فهو في الدنيا كما قيل في ليلى :
عدو لمن عادت وسلم لأهلها ... ومن قربت ليلى أحب وأقربا فمخالطة صاحب هذا القلب سقم ومعاشرته سم ومجالسته هلاك .
فصل في القلب المريض
والقلب الثالث : قلب له حياة وبه علة فله مادتان تمده هذه مرة وهذه أخرى وهو لما غلب عليه منهما ففيه من محبة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له والتوكل عليه : ما هو مادة حياته وفيه من محبة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها والحسد والكبر والعجب وحب العلو والفساد في الأرض بالرياسة : ما هو مادة هلاكه وعطبه وهو ممتحن بين داعبيين : داع يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة وداع يدعوه إلى العاجلة وهو إنما يجيب أقربهما منه بابا وأدناهما إليه جوارا قالقلب الأول حى مخبت لين واع والثاني يابس ميت والثالث مريض فإما إلى السلامة أدنى وإما إلى العطب أدنى
وقد جمع الله سبحانه بين هذه القلوب الثلاثة في قوله :
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته
فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما
يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي
شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له
قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم [ الحج : 52 54 ]