المسألة الأول : تعريف العبادة :
هي اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة .
ومن أمثلتها : الصلاة والصيام والزكاة والحج والصدقة والشكر ونحوها .
فإن قيل : إذا كان كل ما يحبه الله داخلا في العبادة ، فلماذا عطف عليها غيرها كقوله تعالى : " فاعبده وتوكل عليه"[1] ؟
قلنا : هذا له نظائر ، فهو كقوله : " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى "[2] فإيتاء ذي القربى من العدل والإحسان ، فهو من عطف الخاص على العام .
المسألة الثانية : أهميتها ومكانتها :
تظهر أهمية العبادة وفضلها ومكانتها في أنها الغاية التي خلق الله لها الخلق . قال تعالى : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون "[3] ، وبها أُرسل الرسل كما قال تعالى : " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت "[4] ، وبتحقيقها يكمل المخلوق ، وهي الصفة التي وصف الله بها ملائكته وأنبيائه ونعت بها صفوة خلقه ، ووصف بها النبي صلى الله عليه وسلم في أكمل أحواله كحال الإسراء . قال تعالى : "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير " [5] ، وجعل ذلك لازما له حتى الموت ، ولذلك فمن توهم أن المخلوق يخرج من العبودية بوجه من الوجوه فهو أضل الخلق وأجهلهم .
ولو نظرنا لوجدنا أن الدين كله داخل في العبادة كما دل على ذلك حديث جبريل الطويل ، وكذلك فالدين يتضمن الذل والخضوع إضافة إلى أن العبادة في أصل معناها : الذل ، وعبادة الله تشمل الذل والمحبة غايتهما ، فإن الذل بلا محبة أو المحبة بلا ذل لا تسمى عبادة .
والعبادة أمر اختُص الله به ، فلا يعبد غيره ، فإن جنس المحبة والطاعة الإرضاء والإيتاء لله ورسوله ، أما العبادة وما يناسبها فهي لله وحده .
المسألة الثالثة : أقسام العباد :
ولتقسيم العباد طرق كثيرة ، وسيتم تقسيمها باعتبار العبودية :
1- عبد عبودية كونية : وهو مأخوذ من أن العبد مذلل لله خاضع له داخل في تصرفه ، ويدخل في ذلك الأبرار والفجار ، والمؤمنون والكفار ، سواء أقروا بها أو لا .
2- عبد عبودية شرعية : وهو مأخوذ من أن العبد عابد لله طائع له متبع لأوامره ، وهذا هو الفرق بين المؤمنين والكفار .
وقد ضل كثير باعتقاد أن العبادة هي النوع الأول ، وما علموا أن رأس الكفر إبليس كان مقرا بالقسم الأول حيث قال تعالى في قصته عند رفضه السجود لآدم : " رب فأنظرني إلى يوم يبعثون "[6] ، ومع ذلك فلم يدخله ذلك الجنة .
المسألة الرابعة : الضلال في مسألة العبودية :
إذا علم ما سبق ، فلنعلم أن للعبد مشيئة خاصة وقدرة يستطيع من خلالها اختيار الخير وعمله وترك الشر والابتعاد عنه ، ويترتب على ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإذا علم العبد هذا وجب عليه الأمر بالمعروف بفعل الطاعات ، والنهي عن المنكر بترك السيئات ، ثم عليه أن يوالي أولياء الله ، ويعادي أعداء الله .
وفي هذا الباب ضل كثير من الناس ، فسووا بين الحقيقة الكونية والشرعية ، حتى وصل بهم الأمر إلى أن سووا بين الله وبين الأصنام ، بل آل بهم الأمر إلى أن سووا الله بجميع الموجودات ، وهذا أعظم الكفر والإلجاد ، فقالوا بالحلول والاتحاد حتى جعلوا العبد معبودا والمعبود عبدا ، ولو نظرنا لوجدنا أنه حتى النصارى إنما كفّرهم الله إذ قالوا بالحلول واتحاد الرب بالمسيح خاصة ، فكيف بمن جعل ذلك عاما في كل مخلوق .
أما الناجون – وهم أهل الكتاب والسنة – فيعلمون أن الله أمر بطاعته ، ونهى عن معصيته ، فيستعينون بالله على ذلك ، ولا يتكلون على القدر ، بل يدفعون القدر بالقدر ، فبذلك نجوا وفازوا .
وقد ضلت في ذلك فرقتين : فرقة قالت بأن العبد ليست له مشيئة أبدا ، وإنما هو مجبور على كل شيء ، وفرقة قالت : إن العبد له مشيئة مطلقة ، وما يفعله ليس مقدرا ولم يخلقه الله .
وهذه الأصناف فيها شبه من المشركين فإن المشركين الذين كذبوا الرسول كانوا يترددون بين البدعة المخالفة لشرع الله ، وبين الاحتجاج بالقدر على مخالفة أمر الله ، وهؤلاء مثلهم ؛ لأنهم إما ابتدعوا وإما أن يحتجوا بالقدر ، وإما أن يجمعوا بين الأمرين ، ولم يكتفوا بهذا بل جعلوا ما ابتدعوه من البدع حقيقة قطعية ، وما ورد إليهم من الكتاب والسنة حقائق ظنية ، فنشأ عن هذا جهل وفساد عظيم .
وهذا هو منشأ الضلال ، فإن أصل ضلال من ضل هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند الله ، وتقديم اتباع الهوى على اتباع أمر الله .
ثم إن من هؤلاء فرقة عملوا بالطاعات المشهورة ، وتركوا المحرمات المشهورة ، لكنهم ضلوا بتركهم ما أمروا به من الأسباب التي هي عبادة كالدعاء والتوكل ظانين أن هذه من مقامات العامة دون الخاصة ، وأنهم قد وصلوا إلى مقام يشهدون معه القدر وأنه سيكون لا محالة فلا حاجة إلى ذلك .
وهذا ضلال عظيم فإن الله قدر الأشياء بأسبابها ، فكل ما أمر الله به عباده من الأسباب فهو عباده ، كما قال تعالى عن التوكل : " فاعبده وتوكل عليه "[7] ، فقرن التوكل بالعبادة .
ومنهم أيضا طائفة عملوا بالواجبات دون المستحبات ، فنقصوا بقدر ذلك .
وكل هذه فرق وتوجهات لا ينجو منها العبد إلا بملازمة أمر الله وأمر رسوله في كل وقت ، وهو مع ذلك يتشبث بأصلين : ألا يعبد إلا الله ، وألا يعبده إلا بما ش